أ/ عبده سالم
كاتب وخبير استراتيجي
المعلوم أن انهيار الاتحاد السوفيتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي كان قد أحدث فراغاً استراتيجياً هائلاً في منطقة الشرق الإسلامي، وهو الفراغ الذي سعت إيران إلى استثماره منذ وقت مبكر، ومن ثم قدَّمت نفسها بديلاً استراتيجياً للإمبراطورية السوفياتية المنهارة في منطقة الشرق الإسلامي، باعتبارها أهم مكون حضاري في هذه المنطقة الشرقية، ومن ثم ظهرت بمظهر الغيورِ والمدافعِ عن منطقة الشرق، والرافض لأن يسلم الشرقيون مركزهم القيادي للغرب...ومن حينها بدأ الصراخ الإيراني المطالب بضرورة إبقاء الشرق مستقلاً بمركزه القيادي وتراثه الحضاري والديني عن الغرب...والقصد من هذا الصراخ الإيراني هو تهيئة الساحة الإقليمية والرأي العام في المنطقة لاستقبال الكيان الإمبراطوري الفارسي الجديد بمفهومه التاريخي باعتباره الكيان القائد للشرق.. وفي سبيل تبوء هذا المركز القيادي في المنطقة؛ حرصت إيران على ضرورة ارتكاز مشروعها الإمبراطوري على قاعدة جماهيرية إسلامية معادية للغرب، فضلاً عن ارتكاز المشروع على وسائل عسكرية ومستمسكات جهادية وفقاً للرؤية الجهادية الإيرانية، ومن أهم هذه المستمسكات الصراع الجدلي الموجه مع إسرائيل؛ باعتباره أهم عوامل تصدير الثورة الإيرانية، وأهم حامل للرداء الإمبراطوري الفارسي إلى مجمل الشعوب الإسلامية في المنطقة.
الصراع الوهمي مع إسرائيل (أهم روافع الكيان الإمبراطوري الفارسي)
سعت إيران إلى استغلال قضية الوجود الإسرائيلي في المنطقة العربية، واستثماره على النحو الذي يساعدها في تقديم نفسها كطليعة إسلامية مقاومة لهذا الوجود من خلال الإعلام والنشر والتهريج عبر وسائلها الإعلامية التي تهدد، وتنذر، وتعلن عن قرب المواجهة مع إسرائيل على النحو الذي يؤدي إلى فتح المزيد من فجوات الصرع، وتفكيك البنيان الاستراتيجي للمنطقة.
ففي اليمن والجزيرة العربية عموماً، سعت إيران وتسعى حالياً إلى استثمار الوجود الإسرائيلي في منطقة البحر الأحمر على النحو الذي يؤدي إلى فرض حضورها الاستراتيجي العسكري والأمني في هذه المنطقة....أي إن إيران تستخدم شماعة الوجود الإسرائيلي في منطقة البحر الأحمر لشن حربها على الدول العربية المطلّة على هذا البحر بذريعة أن هذه الدول هي دول حليفة لإسرائيل، وفي المقدمة المملكة العربية السعودية أكبر دول البحر الأحمر مكانة وتأثيراً، وهذا الوضع يعني أن إيران في حقيقة أمرها غير جادة في خوض حرب مباشرة ورسمية مع إسرائيل باسم الدولة الإيرانية، وإنما تستخدم شماعة الوجود الإسرائيلي في هذه المنطقة كذريعة لشن الحرب على اليمن والسعودية، وغيرها من دول البحر الأحمر؛ بهدف إخراجها من المعادلة الأمنية للبحر الأحمر باسم الحرب ضد إسرائيل، ومن ثم تقديم نفسها وركائزها وأدواتها للرأي العربي والإسلامي كعدو حقيقي لإسرائيل؛ وهو ما يعني التعريض السلبي بهذه الدول وتلطيخ سمعتها أمام شعوبها فضلاً عن التحريض عليها باعتبارها دول حليفة لإسرائيل في هذه المنطقة.
هذا الاستغلال الإيراني البشع للوجود الإسرائيلي في هذه المنطقة يعتمدُ في حقيقة الأمر على الصراخ الإسرائيلي المستمر، في حال تمكَّنت إيران من تعزيز حضورها الأمني في البحر الأحمر، وباب المندب، وساحل عصب؛ وبالتالي استخدام المنافذ البحرية في هذه المنطقة لتهريب السلاح إلى المقاومة الفلسطينية في غزة عبر البحر الأحمر ومدخل السويس المتصل بسيناء على أبواب غزة؛ وهو ما يعني أن الهدف الإيراني الأهم من خوض هذه الحرب الوهمية مع إسرائيل هو السيطرة على الخط البحري الممتدّ من ساحل عمان المتاخم للمياه الإيرانية حتى خليج السويس المتاخم لصحراء سيناء المصرية القريبة من غزة، وهو الخط الذي يمر بالمياه اليمنية في بحر العرب، وخليج عدن، وباب المندب، ومن ثم الدخول إلى البحر الأحمر وصولاً إلى خليج السويس وسيناء وغزة...أي إن هذا الخط البحري بلغة الحروب هو خط التفاف يستخدمه المحارب الإيراني انطلاقاً من اليمن عبر باب المندب والبحر الأحمر وصولاً إلى سيناء حيث الجبهة الخلفية للصراع مع إسرائيل باعتبار هذه المنطقة تمثل لإيران ساحة صراع بديلة مع إسرائيل، يمكن لإيران فتحها في حال فقدت السيطرة على سوريا ولبنان وأدواتها في حزب الله وذلك قبل الوصول إلى التسوية الإيرانية النهائية مع إسرائيل والتي بموجبها تضمن إيران خارطة نفوذها الإمبراطوري المعتبرة في المنطقة بشكل كامل.
خارطة الفضاء الإمبراطوري الفارسي الجديد
في أواخر عام 2001م، وبالتحديد عقب أحداث 11 سبتمبر، وانطلاق الحرب الدولية ضد الإرهاب، بدأت اللجنة التي شكّلها القائد الأعلى للثورة الإيرانية من كل من الحكومة الإيرانية، ورئاسة الجمهورية، والمراجع الدينية، ومكتب قائد الثورة، تُعد مشروع الاستراتيجية الإيرانية لتحديد مستقبل إيران في الخارج، ومن ثم رسم الشكل الإمبراطوري لإيران في المنطقة... وفي أواخر عام 2004م، أعلنت الحكومة الإيرانية أنها توصلت إلى صوغ استراتيجية إيرانية تحدد المعالم المستقبلية لوضع مستقبل إيران في منطقة جنوب غرب آسيا عام 2025م، وتُعرف هذه الاستراتيجية باسم "الوثيقة الإيرانية العشرينية" (من عام 2005م – عام 2025م)، أو الخطة الإيرانية العشرينية "إيران: عام2025". وهي تُعتبر "أهم وثيقة قومية وطنية إيرانية "؛ كونها تضع التصورات المستقبلية للدور الإيراني خلال عشرين عامًا؛ وتهدف إلى تحويل إيران إلى نواة مركزية لهيمنة إقليمية في منطقة جنوب غرب آسيا كلها، وهي منطقة ذات أربعة أضلاع تحدها الحدود الغربية للهند والصين، والحدود الجنوبية لروسيا، والحدود الشرقية لأوروبا وأفريقيا، والحدود الشمالية للمحيط الهندي.
هذه المنطقة التي تطمح إيران أن تكون فضائها الإمبراطوري بها خمس نظم تحتية هي: الخليج الفارسي، والقوقاز، وآسيا الوسطى، ومنطقة الشرق الأوسط وتحديداَ المنطقة العربية التي تشمل شبه الجزيرة العربية، وبلاد الشام، ومنطقة البحر الأحمر، وصولاً إلى صحراء سيناء المصرية، إضافة إلى شبه القارة الهندية؛ حيث تقع إيران في بؤرة هذا الفضاء الإقليمي المحوري للنظم الخمس, وفي وسط المنطقة الواقعة على ساحتي الحضارة الإيرانية والإسلامية، أو ما يعرف باسم مشروع "حوزة إيران الحضارية"، أو "إيران الكبرى"، التي تشمل -وفقًا لما قاله مصمم الوثيقة العشرينية وكاتب خطها السيد محسن رضائي- المنطقة الواقعة على حدود الصين شرقًا، والمحيط الهندي جنوبًا، والخليج الفارسي غربًا، والقوقاز وبحر قزوين شمالاً. وفي هذه الحوزة -كما يقول رضائي- تحظى الثقافة الفارسية بأهمية خاصة؛ لأنها ترتبط بالحوزة الحضارية الإيرانية (يقصد تاريخ الإمبراطورية الفارسية)، والمكانة العلمية والاستراتيجية التي تحظى بها إيران في هذه المنطقة.
على هذا الأساس يمكن القول إن عدد المناطق الاستراتيجية في إطار هذا الفضاء الجغرافي الملاصق لإيران والمحيط به هي: خمس مناطق استراتيجية بعناصرها الاستراتيجية ومواقعها الجغرافية وفقاَ للترتيب الآتي:
المنطقة الأولى:
منطقة الداخل الإيراني، بكافة عناصرها الاستراتيجية المحددة بمساحتها الجغرافية، وتركيبتها الديموغرافية، ونظامها السياسي، ومشروعها الثوري، وثروتها الاقتصادية، وسلاحها النووي؛ باعتبارها منطقة العمق السيادي الداخلي لإيران ومرتكز مشروعها الإمبراطوري نحو الخارج.
المنطقة الثانية:
تشمل هذه المنطقة العمق الاستراتيجي الملاصق لإيران من جهة الغرب والجنوب؛ حيث يقع العراق وأجزاء من دول الخليج العربي، ومن جهة الشرق والشمال؛ حيث تقع أفغانستان وتركمانستان وباكستان.
المنطقة الثالثة:
هي المنطقة الاستراتيجية المحيطة بالموقع الملاصق لإيران من جهة الشمال والشرق؛ حيث تقع دول القوقاز أحد مواقع حوزة إيران الحضارية، ونقطة تلاقي الحضارتين الإسلامية والمسيحية، إضافةً إلى موقع آسيا الوسطى، الذي يربط إيران والصين بطرق الحرير الدولية.
المعلوم عن هذه المنطقة أنها شكَّلت عبر التاريخ -إلى جانب المنطقة الثانية- الجسم الإمبراطوري الفارسي؛ حيث اللغة الفارسية التي لازالت هي السائدة حتى اليوم في دول هذه المنطقة.
المنطقة الرابعة:
هي المنطقة المحيطة بالموقع الملاصق لإيران من جهة الغرب والجنوب حيث تقع شمال شبه الجزيرة العربية، والشام، وتضمّ هذه المنطقة سوريا كدولة محيطة بالعراق الملاصق لإيران، فضلاً عن أنها تمثل مع لبنان رأس الحربة الإيرانية الموجهة نحو إسرائيل (كما تقول إيران وتدعيه).
تحتل سوريا ومعها لبنان الأهمية الاستراتيجية الأولى لدى إيران؛ باعتبارهما تشكلان ساحة صراع وهمية مع الغرب عبر الجبهة الإسرائيلية في الجولان وشمال إسرائيل، وهو الصراع الذي تريد إيران من خلاله الوصول إلى التسوية النهائية مع الغرب والتي بموجبها تعترف أمريكا بنفوذ إيران كقوة إقليمية رائدة ذات نفوذ إمبراطوري على منطقة جنوب غرب أسيا مقابل اعتراف إيران بإسرائيل.
المنطقة الخامسة:
هي منطقة وسط وجنوب الجزيرة العربية وشرق إفريقيا، وتضم هذه المنطقة: المملكة العربية السعودية، وبحر عمان، واليمن، واريتريا، وجيبوتي، والصومال، وأجزاء من مصر والسودان، وصولاً إلى صحراء سيناء؛ حيث تمثل هذه المنطقة ساحة الصراع الثانية مع الغرب وإسرائيل عبر سيناء، وبالتالي فإن أهمية هذه المنطقة استراتيجياً تكمن في أنها تمثل الخط البحري الممتد من ساحل عمان المتاخم للمياه الإيرانية حتى خليج السويس المتاخم لصحراء سيناء المصرية، مروراً بالمياه اليمنية في بحر العرب، وخليج عدن، وباب المندب، ومن ثم الدخول إلى البحر الأحمر وصولاً إلى خليج السويس ...أي إن هذا الخط البحري –كما ذكرنا- هو خط التفاف يستخدمه المحارب الإيراني انطلاقاً من إيران وبحر عمان واليمن عبر باب المندب والبحر الأحمر وصولاً إلى سيناء؛ حيث الجبهة الخلفية للصراع مع إسرائيل على محور غزة (كما تقول إيران وتدعيه)؛ ولهذا تحتل منطقتا البحر الأحمر وبحر العرب الأهمية الأولى لإيران؛ باعتبارهما تمثلان الخط البحري الذي يربط إيران بسيناء المصرية، إضافة إلى موقعهما الاستراتيجي المهم في آخر متر من مساحة غرب آسيا، فضلاً عن أنهما بوابة عبور نحو أفريقيا، إضافة إلى ما تمثله اليمن بقطاعها الجبلي والتهامي من أهمية استراتيجية في هذه المنطقة؛ كونها منطقة الوصل بالحجاز حيث مهوى العلويين.
ما يهمنا في هذا الوضع هو تسليط الضوء على هذه المنطقة الخامسة ضمن مجموع المناطق التي تشكّل هذا الفضاء الإمبراطوري، وتحديداً المنطقة الممتدة من بحر عمان إلى قناة السويس وصحراء سيناء ومنها اليمن؛ كونها المنطقة المتصلة بموضوع وأهداف هذا المدخل الاستراتيجي...وانسجاماً مع هذا الاختيار سوف نستعرض مجمل الاختراقات الإيرانية السياسية والاجتماعية والدينية لمجتمعات وجغرافيا هذه المنطقة اليمنية وذلك وفقاً للتفصيل الآتي:
1- تراهن إيران على تحويل اليمن بحكم تنامي الحركة الحوثية واتساع تأثيرها إلى أهم منطقة حيوية في الجسم الإمبراطوري الفارسي الذي تعمل إيران حالياً على تخلّقه وإنتاجه كنسق اجتماعي فاعل في المنطقة.
2- تكمن أهمية اليمن بالنسبة لإيران في أنها تمثل خطَّ الالتفاف البحري الممتد من السواحل الإيرانية المتاخمة لبحر عمان حتى خليج السويس وصحراء سيناء؛ حيث الجبهة الخلفية للصراع الوهمي مع إسرائيل، باعتبارها الجبهة البديلة للصراع مع إسرائيل في حال فقدت إيران الاعتماد على حزب الله في جنوب لبنان...وفي ظلِّ هذا الوضع تصبح حركة الحوثي كطليعة مسلحة ومدربة في اليمن هي البنية التحتية العسكرية الأمنية التي بإمكانها أن تمد هذه الجبهة بالعدة والعتاد والبشر عبر البحر لاسيما والحركة الحوثية لا تقل أهميَّة وفاعلية عن حزب الله في لبنان.
3- تعمل إيران على جعل الحركة الحوثية في اليمن همزة وصلٍ للحوزات الدينية الإيرانية واللبنانية مع شرق إفريقيا مستفيدةَ من الموقع الاستراتيجي لليمن كبوابة عبور بحرية نحو إفريقيا وبوابة عبور برية نحو منطقة شبه الجزيرة العربية.
4- هناك ترتيبات إيرانية لجعل الحركة الحوثية في اليمن أهم حوزة دينية وحضارية في المنطقة على النحو الذي يجعلها مصدر تأثير إسلامي وحضاري للمنطقة الإقليمية؛ وبالتالي ستتحول منطقة صعدة من وجهة النظر الإيرانية إلى مركز رمزي للحوار بين المذاهب في منطقة شبه الجزيرة العربية، إضافة إلى مركز حوار بين الأديان في منطقة شرق إفريقيا، من خلال توثيق التعاون الإيراني مع المركز الكنسي القبطي في الحبشة ومصر.
5- تسعى إيران في الوقت الحالي إلى الاستفادة من الموقع الجغرافي لمحافظة صعدة باعتباره يقع في المؤخرة الجنوبية للنسق الجغرافي لسلالة أشراف الحجاز من أهل السنة، الذي يمتدّ من مثلث صعدة، الجوف، مأرب؛ حيث العلويون الحوثيون، إلى الأردن شمالاً؛ حيث الأشراف الهاشميون...وفي الوقت الحالي تفيد المعلومات أن هناك جماعات مختصة بالأنساب بدأت تعمل على هذا الملف من خلال جمع المعلومات التاريخية والاجتماعية وصوغ المشجرات بما يؤدي إلى إدماج الحركة الحوثية كمذهب شيعي جارودي ضمن النسق السلالي لأشراف الحجاز من أهل السنة.
6- تضخ إيران المبالغ المالية الكبيرة عبر الحوزات الدينية الإيرانية لشراء مساحات شاسعة من الأراضي الواقعة على المنافذ البحرية المطلّة على الساحل اليمني، ومن ثم أخذ عقود البيع إلى إيران لتوثيقها في ملكية المراكز الشيعية ضمن ما يسمّى بالوقف الشيعي في المنطقة...هذا فضلاً عن شراء الأراضي والمنافذ البحرية خصوصاً في باب المندب وجزيرة ميون وجزيرة حنيش وساحل الحديدة – جيزان عبر المستثمرين الإيرانيين واليمنيين باسم المشاريع الزراعية، والسكنية، والسياحية، ومناطق الغوص، والحمامات، وغير ذلك من المشاريع الاستثمارية... وفي هذا الصدد هناك معلومات غير معلنة تؤكد أن خارطة شراء الأراضي يشمل أيضاً أرخبيل الفرسان من أراضي (المملكة)، لاسيما جزر الأرخبيل المطلة على باب المندب وأيضاً الجزر السعودية القريبة من ميناء ميدي في الجنوب.